الحمد لله القهار خالق الجنة والنار يصرف الأمر يقدر الأقدار
و أصلي وأسلم على النبي المختار من بشر بالجنة وأنذر من النار
عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الأطهار ومن مشى في دربه ومن سار لينال عقبى الدار
أما بعد:
العفو :
هو كما قال الخليل تركُ إنسانٍ استوجب عقوبةً فعفوتَ عنه)
وقال الجوهري :يقال:{عفوت عن ذنبه إذا تركته ولم تعاقبه }
وقل الكفوي : {هو كف الضر مع ألقدرة عليه وكل من يستحق عقوبة فتركها فهذا الترك عفو } نظرة النعيم 7/2890 - 2891
وهو من صفات عباد الله المتقين:
• هذا الخلق العظيم ذكره الله سبحانه وتعالى في سياق ذكر صفات عباده المتقين فقال:{وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة
عرضها السموات والأرض أعدة للمتقين
الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس
والله يحب المحسنين )آل عمران 133ــ134
الثواب المترتب عليه:
• قال تعالى :{وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله انه لا يحب الظالمين }
الشورى 40
وهذا من أبلغ الجزاء حيث قال تعالى فأجره على الله
فتُِرك الجزاءُ لكرمه سبحانه وتعالى
ومن أكرم من الله جل في علاه نسأل الله من فضله.
وقال تعالى: {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم}
وقال تعالى: {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم}
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:
(من كظم غيظًا وهو قادر على أن يُنْفِذَهُ دعاه الله -عز وجل- على رُءُوس الخلائق حتى يخيِّره الله من الحور ماشاء).
[أبو داود والترمذي وابن ماجه].
وهو سبب للعز والرفعة في الدنيا والآخرة:
ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً
وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله) [مسلم 2588]
فالعفو صفة من صفات رب العالمين وهو من صفات الأنبياء والمرسلين
و عباد الله الصالحين من الصحابة والتابعين والعلماء الربانيين
ومن نهج نهجهم وسار على طريقهم إلى يوم الدين ..
وإليك بيان ذلك:
1- ربّ العزة سبحانه وتعالى:
• قال ابن الأثير :{من أسماء الله تعالى {العفو} وقال الغزالي :فالعفو صفة من صفاالله تعالى }
نضرة النعيم 7/2891
وفي صحيح البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال :
قال النبي صلى الله عليه وسلم :{ما أحد اصبر على أذى سمعه من الله يدعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم }
البخاري ـ الفتح 13[7378] مسلم [2804] واللفظ له
وكان من الدعاء الذي أرشد اليه النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعفُ عني)
فعن ام المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت :
قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها ؟ قال قولي
:[اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني ]
رواه الترمذي[3513 ] وقال هذا حديث حسن صحيح قال الشيخ الألباني : صحيح
2- يعقوب ويوسف عليهما السلام:
• فالعفو خلق نبوي كريم كما أسلفنا فهذا يعقوب عليه السلام
رغم ما فعله أبنائه به من التحايل عليه وحرمانه
ممن تعلق قلبه به وأحبه أشد ما يحب أبٌ ابنه ،
فلم يتوعدهم بالقتل أو الضرب أوالويل والثبور ،
ولم يقاطعهم أو يقسم أن لا يكلمهم ما داموا على قيد الحياة !!
أبدا لم يفعل شيئاً من ذلك ولا أقل منه وإنما قال : { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}
ثم جاءوا إلى أبيهم : {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف : 97]
فما كان جوابه إلا أن : {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}
[يوسف : 98]
ويوسف عليه السلام ورغم ما عاناه بسبب
هذا الفعل من أخوته وبعد أن آثره الله عليهم ما كان منه إلا أن قال:
(لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين )
سبحان الله ليس عفو فحسب ولكن دعاء أن يغفر الله لهم ويتجاوز عنهم.
، ففعل كما فعل أبوه من قبل ! وهكذا تكون القلوب الزكية !!
ولك أن تتصور هذه القلوب الرحيمة إذا كانت بهذه المثابة
مع من ظلمها وآذاها وجرحها !!! فكيف سيكون حالها مع الأخرين !!!!
3- محمد صلى الله عليه وسلم :
• وقد ضرب نبينا أروع الأمثلة في هذا الباب
فيتجلى عفو الرسول صلى الله عليه وسلم
حينما ذهب إلى الطائف ليدعو أهلها إلى الإسلام،
ولكن أهلها رفضوا دعوته وسلَّطوا عليه
صبيانهم وعبيدهم وسفهاءهم
يؤذونه صلى الله عليه وسلم هو ورفيقه زيد بن حارثة،
ويقذفونهما بالحجارة حتى سال الدم من قدم النبي صلى الله عليه وسلم.
فنزل جبريل -عليه السلام- ومعه ملك الجبال،
واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في هدم الجبال على هؤلاء المشركين،
لكن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنهم، وقال لملك الجبال:
(لا بل أرجو أن يُخْرِجُ الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، ولا يشرك به شيئًا) [متفق عليه].
ومع ما فعل قومه به من الأذى والتشريد ومحاولة القتل والحروب المتعددة
فقد مكنه الله تعالى منهم يوم الفتح الأكبر فدخل الكعبة وتجول في نواحيها
وكبر وصلى ركعتين ثم خرج وقد احتشدت قريش في المسجد الحرام
تنتظر الأمر منه صلى الله عليه وسلم وتترقب نزول العقاب !
فاخذ بعضدتي الباب وقام فخطب خطبة بليغة بيّن فيها كثيراً من الأحكام ثم قال :
يا معشر قريش ماذا ترون إني فاعل بكم قالوا : خيراأخٌ كريم وابن أخٍ كريم قال ( لا تثريب عليكم اذهبوا فأنتم الطلقاء )
لا إله إلا الله أي قلب أنقى وأطهر من هذا القلب صلوات ربي وسلامه عليه .
• وموقف أبي سفيان لا يقل عجباً عن هذا الموقف!
فمع ما لقيه منه من الأذى يأتي يوم الفتح إلى أبي بكرٍ رضي الله عنه فيقول:
اشفع لي عند رسول الله فيقول أبو بكرٍ رضي الله عنه: ما أنا بفاعل!
ثم أتى عمر فأبى وشدد في الكلام !
فأتى علياً فامتنع فقال: أشر علي قال:
ادخل عليه وقل تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنّا لخاطئين..
ففعل! ولما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) [يوسف 92]
روضة الأنوار 188
فأنشد أبو سفيان أبياتاً يقول فيها:
لعمرك إني يوم أحمل رايــــــةً --- لتغلب خيل اللات خيل محـــمد
لكلمدلج الحــيران اظــلم ليـــله --- فهذا أواني حين أهــدى فأهتدي
هدابي هادٍ غير نفســــي ونالني --- مع الله من طردت كل مطـــرد
أَصـــُدُّ وأنأى جاهداً عن محمدٍ --- وأدعى وإن لم انتسب من محمد
هــمُ ماهمُ من لم يقل بهواهـــم ُ --- وإن كان ذا رأي يُلَمْ ويفنـــــــّـد
أريد لأرضيهم ولست بلائـــطٍ --- مع القوم ما لم أُهد في كل مقعد
فقــــــل لثقيفٍ لا أريـــد قتالها --- وقل لثقيفٍ تلك غيري أو عـدي
فما كنت في الجيش الذي نال عامر --- وما كان عن جرّا لساني أو يدي
قبائــل جائت من بلاد بعيــــدة --- نزائع جائت من تهامٍ وســــردد
تهذيب سيرة ابن هشام 220
و أختم بموضوعي بهذه الأبيات عل أمل لقاء قادم
في أمان الله
ـــــــــــــ
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم * ومن لك بالحر أن يحفظ اليدا
اذا أنت أكرمت الكريم ملكته * وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
فوضع الندى في موضع السيف بالعلا * مضرُّ كوضع السيف في موضع الندى
اذا ماالذنب وافى باعتذار * فقابله بعفوٍ وابتسام
ولاتحقد وان ملئت غيظاً * فإن العفو من شيم الكرام