الصحافة ومعركة الحرية
بقلم عزالدين مبارك*
النظام الديمقراطي مطلب شعبي ملح ومبدأ أساسي جاءت به الثورة المجيدة ومن أهم أركانه حرية التعبير وخاصة الصحافة الحرة والمستقلة عن الولاءات الحزبية والإملاءات الفوقية وتحكم المال السياسي المشبوه.
فالصحافة الحرة هي بالقطع المؤشر والدليل البارز لوجود نظام ديمقراطي في بلد من البلدان وهي مهنة المتاعب والتحديات والكلمة الصادقة التي توجه الرأي العام وتجعله مطلعا على خفايا الأمور لكي لا يقع في مستنقع الدجل السياسي العقيم والتعتيم الموجه والخداع فيكون المواطن على بينة من الأمور ويأخذ قراراته عن معرفة ودراية.
فالسياسة هي فن المراوغة بامتياز لأنها تبحث أساسا عن الوجه الجميل والمنير من الأشياء ولا تستسيغ بسهولة النقد واللعب على المكشوف لأن ذلك يؤثر بالسلب على حظوظ اللاعبين السياسيين في البقاء في الحكم أو ربح رهان الانتخابات.
وبما أن الصحافة الحرة تعري الواقع ولا تجامل من في الحكم أو في المعارضة فإن الجميع يسعى في طلب ودها أو اتقاء شرها وإن لزم الأمر إسكات صوتها وإدخالها إلى بيت الطاعة مثلما تفعل جميع الديكتاتوريات عن طريق القوانين الجائرة والسالبة للحرية.
فالتداول الديمقراطي على الحكم يفرض وجود منابر إعلامية تمكن الأحزاب المتطلعة للسلطة لتمرير أفكارها وأطروحاتها بكل حرية حتى تنال قبول أفراد الشعب وجموع المواطنين ودون ذلك لا يمكن إزاحة من بيده الحكم إلا عن طريق العنف الثوري أو الانقلابات.
فلا يمكن إذا الحديث عن ديمقراطية حقيقية بدون صحافة حرة لأنها الوسيلة الوحيدة التي تمكن الأحزاب من إيصال صوتها للناخبين كما إنها تمكن المواطنين من معرفة حقائق الأمور المتصلة بدواليب الدولة دون تزييف ومخادعة فيكون حكم الناس على من بالسلطة موضوعيا ويتم التداول على المناصب سلميا على ضوء ما تفصح عنه الانتخابات.
وحرية الصحافة ليست ترفا بحد ذاته وليست هبة تمنح أو تسحب حسب الأمزجة والتقلبات السياسية بل هي حق أصلي وسلطة قائمة الذات أتى بها الشعب الثائر وأهداها لأهلها حتى يؤدوا أمانتها بكل حكمة واقتدار.
والطبيعي في فترة التحول الديمقراطي أن تكون هناك بعض الأخطاء والتجاوزات وتلك ضريبة الحرية وهي بطبيعتها مندفعة ومتجاوزة وخلاقة ومبدعة بعد فترة من الجدب والتعاسة وسنراها بعد فترة قصيرة قد لامست الرشد والاستقرار والحكمة.
أما عملية فرض واقع جديد على الصحافة وتقييد حريتها حسب رؤية معينة لا تمثل كامل المجتمع ونحن مازلنا في بداية تكوين نظام ديمقراطي فإن ضررها أكبر من نفعها فالخطأ مع جرعة زائدة من الحرية لا يقتل الديمقراطية بل يقويها أما النقص في الحرية فهو الانحدار إلى الديكتاتورية.
وبعد ما يقارب الثلاث سنوات من الثورة لم يجن الشعب التونسي إلا القليل من الانجازات على أرض الواقع وكان الفشل الذريع عنوان المرحلة بكل تداعياتها السلبية على البلاد والعباد بحيث لم يتم المرور إلى مرحلة الاستقرار السياسي وكتابة دستور في مستوى الطموحات ودخلنا في متاهة الاستقطاب وكسر عظم بين النهضة وخصومها السياسيين.
وقد استبشرنا خيرا رغم كل الإخفاقات بأن الإعلام بقي صامدا وحرا وهذا يؤسس لديمقراطية ناشئة لكن في الأيام الأخيرة بدأ الهجوم المنظم على حرية الصحافة وقد ضاق صدر الحكومة من النقد والقيام بعملهم الجاد في تعرية الواقع وتوعية المواطن وكشف الحقائق والزاوية المظلمة من الحياة الاجتماعية والاقتصادية.
والغريب في الأمر هو توريط السلطة القضائية في هذه المعركة الخاسرة مع الإعلام لإسكات صوت من لا صوت له في وقت تدنت فيه كل المؤشرات إلى الحضيض ولم يبق إلا القليل من حرية التعبير والرأي كذكرى لثورة خلناها ستجلب لنا الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
وإذا تم إسكات الصحافة الحرة والإعلام النزيه والمناضل بعد فجوة الأعوام الثلاث كما عشناه زمن المخلوع في بداية عهده وكأن التاريخ يعيد نفسه فلا تنتظروا بعد اليوم ديمقراطية ناشئة أو حتى بدائية واستعدوا لمرحلة من الاستبداد تكمم فيها الأفواه ونعود فعلا لزمن صحافة العار والتطبيل والتزمير وعمى الألوان.
*كاتب ومحلل سياسي