مصيدة الديون الخارجية
بقلم عزالدين مبارك*
بعد الثورة انخفضت وتيرة الانتاج في أغلب قطاعات الاقتصاد التونسي وعمت الفوضى المشهد السياسي بحيث دخلت البلاد في مرحلة الركود وقد زادت الاضطرابات الاجتماعية المطالبة بتحسين الأجور في ظل الانخفاض المطرد في الانتاجية وتوقف العديد من المؤسسات الاقتصادية عن النشاط مما خلق ضغوطات كبيرة على ميزانية الدولة التي أصبحت غير قادرة على الإيفاء بتعهداتها الحالية والمستقبلية.
وفي ظل هذه الظروف المستعصية وفي مناخ من التجاذبات السياسية وحمى الانتخابات اتجهت سياسة الدولة إلى تلبية المطالب وإن كانت في بعض الأحيان غير واقعية تحت ضغط الشارع مما شجع قطاعات أخرى من القيام بالعمل نفسه والحال هو اتباع سياسة تقشفية أو توسعية متحكم فيها تراعي التوازنات المالية والظرف الاقتصادي حتى لا تنزلق البلاد نحو المديونية ودفع ثمن باهظ تتحمله الأجيال القادمة.
فاستعمال المديونية الخارجية من أجل التحكم في الحراك الاجتماعي والمطلبية النقابية لغايات انتخابية وتوزيع المغانم على المريدين والولاءات لا تنفع الاقتصاد التونسي في شيء بحيث لا تحل مشكلة البطالة ولا تخلق تراكم للثروة بل تشعل لهيب الأسعار وتفاقم من حالات الفقر والخصاصة .
فقد كان من الأجدى اتباع سياسة توافقية تمكن الحكومة من الذهاب نحو سياسة اقتصادية تقشفية فاعلة تتماشى مع المرحلة ومؤسسة على الضغط على المصاريف وتجميد الأجور إلى حين الخروج من عنق الزجاجة. فالتجاذبات السياسية في ظل الفوضى الايديولوجية والانفلات الأمني جعل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة تشتري الهدوء والسكينة بتلبية المطالب الاجتماعية وهي في بعض الأحيان غير ملحة وضرورية.
وهذه الاتجاه الحكومي الذي أعطى اهتماما مبالغا فيه للبعد السياسي على حساب الاقتصاد وهو في غالب الأحيان مجرد دجل عقيم لربح الوقت وتشتيت الانتباه بهدف خلق أرضية ومناخ مؤسساتي للبقاء في الحكم أطول فترة ممكنة. وهكذا بدأت المؤشرات الاقتصادية تتجه نحو المنطقة الحمراء بسرعة جنونية والمواطن لا تهمه السياسة في شيء بقدر ما يهمه رغيفه وقوت عياله.
وأتعس ما في المنطق السياسي هو عدم الاعتراف بالواقع والتشبث بالخطأ وكما يقول المثل العامي ''معيز ولو طاروا" والمواصلة في الطريق المسدود إلى النهاية المحتومة دون المراجعة والتوقف والتساؤل والتعديل. فليس هناك سياسة اقتصادية دون توجهات واضحة توازن بين الإمكانيات المتاحة والأهداف المرسومة والغاية من ذلك الحد من التداين الخارجي للمحافظة على السيادة الوطنية.
فالتداين من أجل زيادة الأجور المنتفخة وبعث المناصب الصورية وتمويل شراء السيارات الفارهة ودفع مصاريف التنقلات الخارجية والمأموريات وأذون البنزين والاستقبالات وغيرها لهو هدر للمال العام بفعل القانون لا يزيد إلا الطين بلة من ناحية البؤس الاقتصادي كما يعد هذا الأمر تناقضا بينا في الخطاب السياسي المتجه نحو البحث عن حلول للمشاكل المطروحة وتحقيق أهداف الثورة.
فالديون الخارجية لن تكون نافعة ومجدية إذا لم توجه نحو الاقتصاد الإنتاجي الخالق للقيمة المضافة والعمالة وتتمكن الدولة بذلك من تطوير اقتصادها وتسديد ديونها في الآجال المحددة في ظل بيئة اقتصادية خالية من الفساد والرشوة والمحسوبية. كما أن الدول المانحة والمؤسسات العالمية كالبنك العالمي وصندوق النقد الدولي لا تقدم القروض بدون شروط وهي بالفعل تصطاد الدول التي تمر بصعوبات ظرفية أو هيكلية لتنقض عليها كالفريسة لتفتك بها وتكبلها في أحابيلها لتملي عليها ما شاءت من سياسات واستراتيجيات وهي في الغالب في غير صالح الطبقات المحرومة التي تزيدها هذه الديون فقرا على فقر.
*كاتب ومحلل سياسي